فصل: الخبر عن قريش من هذه الطبقة وملكهم بمكة وأولية أمرهم وكيف صار الملك إليهم فيها ممن قبلهم من الأمم السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن قريش من هذه الطبقة وملكهم بمكة وأولية أمرهم وكيف صار الملك إليهم فيها ممن قبلهم من الأمم السابقة:

قد ذكروا عند الطبقة الأولى أن الحجاز وأكناف العرب كانت ديار العمالقة من ولد عمليق بن لاوذ وأنهم كان لهم ملك هنالك وكانت جرهم أيضا من تلك الطبقة من ولد يقطن بن شالخ بن أرفخشد وكانت ديارهم اليمن مع إخوانهم حضرموت وأصاب اليمن يومئذ قحط ففروا نحو تهامة يطلبون الماء والمرعى وعثروا في طريقهم بإسمعيل مع أمه هاجر عند زمزم وكان من شأنه وشأنهم معه ما ذكرناه عند ذكر إبراهيم عليه السلام ونزلوا على قطورا من بقية العمالقة وعليهم يومئذ السميدع بن هوثر بثاء مثلثة ابن لاوي بن قطورا بن ذكر بن عملاق أو عمليق واتصل خبر جرهم من ورائهم من قومهم باليمن وما أصابوا من النجعة بالحجاز فلحقوا بهم وعليهم مضاض بن عمرو بن سعيد بن الرقيب بن هنء بن نبت بن جرهم فنزلوا على مكة بقعيقعان وكانت قطورا أسفل مكة وكان مضاض يعشر من دخل مكة من أعلاها والسميدع من أسفلها هكذا عند ابن اسحق والمسعودي أن قطورا من العمالقة وعند غيرهما أن قطورا من بطون جرهم وليسوا من العمالقة ثم افترق أمر قطورا وجرهم وتنافسوا الملك واقتتلوا وغلبهم المضاض وقتل السميدع وانقضت العرب العاربة قال الشاعر:
مضى آل عملاق فلم يبق منهمو ** حقير ولاذ وعزة متشاوس

عتوا فأدال الدهر منهم وحكمه ** على الناس هذا واغذ ومبايس

ونشأ إسمعيل صلوات الله عليه بين جرهم وتكلم بلغتهم وتزوج منهم حرا بنت سعد بن عوف بن هنء بن نبت بن جرهم وهي المرأة التي أمره أبوه بتطليقها لما زاره ووجده غائبا فقال لها: قولي لزوجك فليغير عتبته فطلقها وتزوج بنت أخيها مامة بنت مهلهل بن سعد بن عوف ذكر هاتين المرأتين الواقدي في كتاب انتقال النور وتزوج بعدهما السيدة بنت الحرث بن مضاض بن عمرو بن جرهم ولثلاثين سنة من عمر إسمعيل قدم أبوه الحجاز فأمر ببناء الكعبة البيت الحرام وكان الحجر زربا لغنم إسمعيل فرفع قواعدها مع ابنه إسمعيل وصيرها خلوة لعبادته وجعلها للناس كما أمره الله وانصرف إلى الشام فقبض هنالك كما مر وبعث الله إسمعيل إلى العمالقة وجرهم وأهل اليمن فآمن بعض وكفر بعض إلى أن قبضه الله ودفن بالحجر مع أمه هاجر ويقال آجر وكان عمره فيما يقال مائة وثلاثين سنة وعهد بأمره لابنه قيذار: ومعنى قيذار صاحب الإبل وذلك لأنه كان صاحب إبل أبيه إسمعيل كذا قال السهيلي قال غيره معناه الملك ويقال: إنما عهد لابنه نابت فقام ابنه بأمر البيت ووليها وكان ولده فيما ينقل أهل التوراة كما نقل اثني عشر: قيذار ينابوت أدبيبل مبسام مشمع دوما مسا حدد ديمايطور ياقيس قدما أمهم السيدة بنت مضاض قاله السهلي وهكذا وقعت أسماؤهم في الإسرائيليات والحروف مخالفة للحروف العربية بعض الشيء باختلاف المخارج فلهذا يقع الخلاف بين العلماء في ضبط هذه الألفاظ وقد ضبط ابن إسحق تيما منهم بالطاء والياء وضبطه الدارقطني بالضاد المعجمة والميم قبل الياء كأنها تأنيث آضم وذكر ابن إسحق ديما وقال البكري به سمين دومة الجندل لأنه نزلها وذكر ان الطور بيطون ابن إسمعيل.
ثم هلك نابت بن إسمعيل وولى أمر البيت جده الحرث بن مضاض وقيل وليها مضاض بن عمرو بن سعد بن الرقيب بن هنء ابن نبت بن جرهم ثم ابنه الحرث بن عمرو ثم قسمت الولاية بين ولد إسمعيل بمكة وأخوالهم من جرهم ولاة البيت لا ينازعهم ولد إسمعيل إعظاما للحرم أن يكون به بغي أو قتال ثم بغت جرهم في البيت ووافق بغيهم تفرق سبأ ونزول بني حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر أرض مكة فأرادوا المقام مع جرهم فمنعوهم واقتتلوا فغلبهم بنو حارثة وهم فيما قيل خزاعة وملكوا البيت عليهم ورئيسهم يومئذ عمرو بن لحي وشرد بقية جرهم ولحي هذا هو ربيعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو مزيقيا بن عامر وقيل: إنما ثعلبة بن حارثة بن عامر وفي الحديث «رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار» يعني أحشاءه أنه الذي بجر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي وغير دين إسمعيل ودعا إلى عبادة الأوثان وفي طريق آخر رأيت عمرو بن عامر قال عياض المعروف في نسب أبي خزاعة هذا هو عمرو محمد لحي بن قمعة بن إلياس وإنما عامر اسم أبيه أخو قمعة وهو مدركة بن إلياس وقال السهيلي: كان حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر خلف على أم لحي بعد أبيه قمعة ولحي تصغير واسمه ربيعة تبناه حارثة وانتسب إليه فالنسب صحيح بالوجهين وأسلم بن أفصى بن حارثة أخو خزاعة.
وعن ابن إسحق أن الذي أخرج جرهم من البيت ليست خزاعة وحدها وإنما تصدى للنكير عليهم خزاعة وكنانة وتولى كبره بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة وبنو غبشان بن عبد عمرو بن بوى بن ملكان بن أفصى بن حارثة فاجتمعوا لحربهم واقتتلوا وغلبهم بنمو بكر وبنو غبشان بن كنانة وخزاعة على البيت ونفوهم من مكة فخرج عمرو وقيل عامر بن الحرث بن مضاض الأصغر بمن معه من جرهم إلى اليمن بعد أن دفن حجر الركن وجميع أموال الكعبة بزمزم ثم أسفوا على ما فارقوا من أمر مكة وحزنوا حزنا شديدا وقال عمرو بن الحرث وقيل عامر:
كان لم يكن بين الحجون إلى الصفا ** أنيس ولم يسمر بمكة سامر

بلى نحن كنا أهلها فأزالنا ** صروف الليالي والجدود العواثر

وكنا ولاة البيت من بعد نابت ** نطوف فما تحظى لدنيا المكاثر

ملكنا فعززنا فأعظم ملكنا ** فليس لحي عندنا ثم فاخر

ألم تنكحوا من خير شخص علمته ** فأبناؤنا منا ونحن الأصاهر

فأن تنثني الدنيا علينا بحالها ** فإن لها حالا وفيها التشاجر

فأخرجنا منها المليك بقدرة ** كذلك يا للناس تجري المقادر

أقول إذا نام الخلي ولم أنم ** أذا العرش لا يبعد سهيل وعامر

وبدلت منها أوجها لا أحبها ** قبائل منها حمير وبحائر

وصرنا أحاديثا وكنا بغطة ** بذلك عضتنا السنون الغوابر

فساحت دموع العين تبكي لبلدة ** بها حرم أمن وفيها المشاعر

ونبكي لبيت ليس يؤذي حمامه ** يظل بها أمنا وفيها العصافر

وفيه وحوش لا ترام أنيسة ** إذا خرجت منه فليست تغادر

ثم غلبت بنو حبشية على أمر البيت بقومهم من خزاعة واستقلوا بولايتها دون بني بكر عبد مناة وكان الذي يليها لآخر عهدهم عمرو بن الحرث وهو غبشان.
وذكر الزبير: أن الذين أخرجوا جرهم من البيت من ولد إسمعيل من ولد إياد بن نزار ومن بعد ذلك وقعت الحرب بين مضر وإياد فأخرجتهم مضر ولما خرجت إياد قلعوا الحجر الأسود ودفنوه في بعض المواضع ورأيت ذلك امرأة من خزاعة فأخبرت قومها فاشترطوا على مضر إن دولوهم عليه أن لهم ولاية البيت دونهم فوفوا لهم بذلك وصارت ولاية البيت لخزاعة إلى أن باعها أبو غبشان لقصي ويذكر أن من وليها منهم عمرو بن لحي ونصب الأصنام وخاطبه رجل من جرهم:
يا عمرو لا تظلم بمكـ ** ـة إنها بلد حرام

سائل بعاد أين هم ** وكذاك تحترم الأنام

وهي العماليق الذ ** ين لهم بها كان السوام

وكانت ولاية البيت لخزاعة وكان لمضر ثلاث خصال: الإجازة بالناس يوم عرفة لبني الغوث بن مرة إخوتهم وهو صوفة والإفاضة بالناس غداة النحر من جمع إلى منى لبني زيد بن عدي وانتهى ذلك منهم إلى أبي سيارة عميرة بن الأعزل بن خالد بن سعد بن الحرث بن كانس بن زيد فدفع من مزدلفة أربعين سنة على حمار ونسء الشهور الحرم كان لبني مالك بن كنانة وانتهى إلى القلمس كما مر وكان إذا أراد الناس الصدور من مكة قال: اللهم إني أحللت أحد الصغرين ونسأت الآخر للعام المقبل قال عمرو بن قيس من بني فراس:
ونحن الناسئون على معد ** شهور الحل نجعلها حرما

قال ابن إسحق: فأقام بنو خزاعة وبنو كنانة على ذلك مدة الولاية لخزاعة دونهم كما قلناه وفي أثناء ذلك تشعبت بطون كنانة ومن مضر كلها وصاروا جرما وبيوتات متفرقين في بطن قومهم من بني كنانة وكلهم إذ ذاك أحياء حلول بظواهرها وصارت قريش على فرقتين: قريش البطاح وقريش الظاهر فقريش البطاح ولد قصي بن كلاب وسائر بني كعب بن لؤي وقريش الظواهر من سواهم وكانت خزاعة بادية لكنانة ثم صار بنو كنانة لقريش ثم صارت قريش الظواهر بادية لقريش البطاح وقريش الظواهر من كان على الأقل من مرحلة ومن الضواحي ما كان على الأكثر من ذلك وصار من سوى قريش وكنانة من قبائل مضر في الضواحي أحياء بادية وظعونا ناجعة من بطون قيس وخندق من أشجع وعبس وفزارة ومرة وسليم وسعد بن بكر وعامر بن صعصعة وثقيف ومن تميم والرباب وضبعي بني أسد وهذيل والقارة وغير هؤلاء من البطون الصغار وكان التقدم في مضر كلها لكنانة ثم لقريش والتقدم في قريش لبني لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر وكان سيدهم قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي كان له فيهم شرف وقرابة وثروة وولد وكان له في قضاعة ثم في بني عروة بن سعد بن زيد من بطونهم نسب ظئر ورحم كلالة كانوا أجلها فيه شيعة وذلك بما كان ربيعة بن حرام بن عذرة قدم مكة قبل مهلك كلاب بن مرة وكان كلاب خلف قصيا في حجر أمه فاطمة بنت سعد بن باسل بن خثعمة الأسدي من اليمن فتزوجها ربيعة وقصي يومئذ فطيم فاحتملت إلى بلاد بني عذرة وتركت ابنها زهرة بن كلاب لأنه كان رجلا بالغا وولدت لربيعة بن حزام رزاح بن ربيعة ولما شب قصي وعرف نسبه رجع إلى قومه وكان الذي يلي أمر البيت لعهده من خزاعة حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو فأصهر إلى قصي في ابنته حبى فأنكحه إياها فولدت له عبد الدار وعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي ولما انتشر ولد قصي وكثر ماله وعظم شرفه هلك حليل فرأى قصي أنه أحق بالكعبة وبأمر مكة وخزاعة وبني بكر لشرفه في قريش ولما كثرت قريش سائر الناس واعتزت عليهم وقيل أوصى له بذلك حليل ولما بدا له ذلك مشى في رجالات قريش ودعاهم إلى ذلك فأجابوه وكتب إلى أخيه زاح في قومه عذرة مستجيشا بهم فقدم مكة في إخوته من ولد ربيعة ومن تبعهم من قضاعة في جملة الحاج مجمعا نصر قصي.
قال السهيلي: وذكر غير ابن إسحق أن حليلا كان يعطي مفاتيح البيت بنته حبى حين كبر وضعف فكانت بيدها وكان قصي ربما أخذها يفتح البيت للناس ويغلقه فلما هلك حليل أوصى بولاية البيت إلى قصي وأبت خزاعة أن يمضي ذلك لقصي فعند ذلك هاجت الحرب بينه وبين خزاعة وأرسل إلى رزاح أخيه يستنجده عليهم.
وقال الطبري: لما أعطى حليل مفاتيح الكعبة لابنته حبى لما كبر وثقل قالت: إجعل ذلك لرجل يقوم لك به فجعله إلى أبي غبشان سليمان بن عمرو بن لؤي بن ملكان بن قصي وكانت له ولاية الكعبة ويقال: إن أبا غبشان هو ابن حليل باعه من قصي بزق خمر قيل فيه أخسر من صفقة أبي غبشان فكان من أول ما بدؤا به نقض ما كان لصوفة من إجازة الحاج وذلك أن بني سعد بن زيد مناة بن تميم كانوا يلون الإجازة للناس بالحج من عرفة ينفر الحاج لنفرهم ويرمون الجمار لرميهم ورثوا ذلك من بني الغوث بن مرة كانت أمه من جرهم وكانت لا تلد فنذرت إن ولدت أن تتصدق به على الكعبة عبدا يخدمها فولدت الغوث وخلى أخواله من جرهم وبينه وبين من نافسه بذلك فكان له ولولده وكان يقال لهم صوفة.
وقال السهيلي: عن بعض الإخباريين: إن ولاية الغوث بن مرة كانت من قبل ملوك كندة ولما انقرضوا ورث بالتعدد بنو سعد بن زيد مناة ولما جاء الإسلام كانت تلك الإجازة منهم لكرب بن صفوان بن حتات بن سجنة وقد مر ذكره في بطون تميم فلما كان العام الذي أجمع فيه قصي الإنفراد بولاية البيت وحضر إخوته من عذرة تعرض لبني سعد أصحاب صوفة في قومهم من قريش وكنانة وقضاعة عند الكعبة فلما وقفوا للأجازة وقال: لا نحن أولى بهذا منكم فتناجزا وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم وعرفت خزاعة وبنو بكر عند ذلك أنه سيمنعهم من ولاية البيت كما منع الآخرين فانجازوا لحربه وتناجزوا وكثر القتل ثم صالحوه على أن يحكموا من أشرف العرب وتنافروا إلى يعمر بن عوف بن كعب بن عمرو بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة فقضى لقصي عليهم فولى قصي البيت وقر بمكة وجمع قريشا من منازلهم بين كنانة إليها وقطعها أرباعا بينهم فأنزل كل بطن منهم بمنزلة الذي صحبهم به الإسلام وسمي بذلك مجمعا قال الشاعر:
قصي لعمري كان يدعى مجمعا ** به جمع الله القبائل من فهر

فكان أول من أصاب من بني لؤي بن غالب ملكا أطاع له به قومه فصار له لواء الحرب وحجابة البيت وتيمنت قريش برأيه فصرفوا مشورتهم إليه في قليل أمورهم وكثيرها فاتخذوا دار الندوة إزاء الكعبة في مشاوراتهم وجعل بابها إلى المسجد فكانت مجتمع الملاء من قريش في مشاوراتهم ومعاقدهم ثم تصدى لإطعام الحاج وسقايته لما رأى أنهم ضيف الله وزوار بيته وفرض على قريش خراجا يؤدونه إليه زيادة على ذلك كانوا يردفونه به فحاز شرفهم كله وكانت الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء له ولما أسن قصي وكان بكره عبد الدار وكان ضعفا وكان أخوه عبد مناف شرف عليه في حياة أبيه فأوصى قصي لعبد الدار بما كان له من الحجابة واللواء والندوة والرفادة والسقاية يجبر له بذلك ما نقصه من شرف عبد مناف وكان أمره في قومه كالدين المتبع لا يعدل عنه ثم هلك وقام بأمره في قومه بنوه من بعده وأقاموا على ذلك مدة وسلطان مكة لهم وأمر قريش جميعا ثم نفس بنو عبد مناف على بني عبد الدار ما بأيديهم ونازعوهم فافترق أمر قريش وصاروا في مظاهرة بني قصي بعضهم على بعض فرقتين وكان بطون قريش قد اجتمعت لعهدها ذلك اثني عشر بطنا: بنو الحرث بن فهر وبنو محارب بن فهر وبنو عامر بن لؤي وبنو عدي بن كعب وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب وبنو جمح بن عمرو بن هصيص وبنو تيم بن مرة وبنو مخزوم بن يقظة بن مرة وبنو زهرة بن كلاب وبنو أسد بن عبد العزى بن قصي وبنو عبد الدار وبنو عبد مناف بن قصي.
فأجمع بنو عبد مناف انتزاع ما بأيدي بني عبد الدار مما جعل لهم قصي وقام بأمرهم عبد شمس أسن ولده واجتمع له من قريش: بنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة وبنو تيم وبنو الحرث واعتزل بنو عامر وبنو المحارب الفريقين وصار الباقي من بطون قريش مع بني عبد الدار وهم: بنو سهم وبنو جمح وبنو عدي وبنو مخزوم ثم عقد كل من الفريقين على أحلافه عقدا مؤكدا وأحضر بنو عبد مناف وحلف قومهم عند الكعبة جفنة مملؤة طيبا غمسوا فيها أيديهم تأكيدا للحلف فسمي حلف المطيبين وأجمعوا للحرب وسووا بين القبائل وأن بعضها إلى بعض فعبت بنو عبد دار لبني الأسد وبنو جمح لبني زهرة وبنو مخزوم لبني تيم وبنو عدي لبني الحرث ثم تداعوا للصلح على أن يسلموا لبني عبد مناف السقاية والرفادة ويختص بنو عبد الدار بالحجابة واللواء فرضي الفريقان وتحاجز الناس.
وقال الطبري قيل ورثها من أبيه ثم قام بأمر بني عبد مناف هاشم ليساره وقراره بمكة وتقلب أخيه عبد شمس في التجارة إلى الشام فأحسن هاشم ما شاء في إطعام الحاج وإكرامهم وفدهم ويقال: إنه أول من أطعم الثريد الذي كان يطعم فهو ثريد قريش الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» والثريد لهذا العهد ثريد الخبز بعد أن يطبخ في المقلاة والتنور وليس من طعام العرب إلا أن عندهم طعاما يسمونه البازين يتناوله الثريد لغة وهو ثريد الخبز بعد أن يطبخ في الماء عجينا رطبا إلى أن يتم نضجه ثم يدلكونه بالمغرفة حتى تتلاحم أجزاؤه وتتلازج وما أدري هل كان ذلك الطعام كذلك أو لا إلا أن لفظ الثريد يتناوله لغة.
ويقال: إن هاشم بن عبد المطلب أول من سن الرحلتين في الشتاء والصيف للعرب ذكره ابن إسحق وهو غير صحيح لأن الرحلتين من عوائد العرب في كل جيل لمراعي إبلهم ومصالحها لأن معاشهم فيها وهذا معنى العرب وحقيقتهم أنه الجيل الذي معاشهم في كسب الإبل والقيام عليها في ارتياد المرعى وانتجاع المياه والنتاج والتوليد وغير ذلك من مصالحها والفرار بها من أذى البرد عند التوليد إلى القفار ودفئها وطلب التلول في المصيف للحبوب وبرد الهواء وتكونت على ذلك طباعهم فلابد لهم منها ظعنوا أو أقاموا وهو معنى العروبية وشعارها أن هاشما لما هلك وكان مهلكه بغزة من أرض الشام تخلف عبد المطلب صغيرا بيثرب فأقام بأمره من بعده بعده ابنه المطلب وكان ذا شرف وفضل وكانت قريش تسمية الفضل لسماحته وكان هاشم قدم يثرب فتزوج في بني عدي وكانت قبلة عند أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبا بن كلفه بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك سيد الأوس لعهده فولدت عمرو بن أحيحة وكانت لشرفها تشترط أمرها بيدها في عقد النكاح فولت عبد المطلب فسمته شيبة وتركه هاشم عندها حتى كان غلاما وهلك هاشم فخرج إليه أخوه المطلب فأسلمته إليه بعد تعسف واغتباط به فاحتمله ودخل مكة فرفده على بعيره فقالت قريش: هذا عبد ابتاعه المطلب فسمي شيبة عبد المطلب من يومئذ.
ثم إن المطلب بردمان من اليمن فقام بأمر بني هاشم بعده عبد المطلب بن هاشم وأقام الرفادة والسقاية للحاج على أحسن ما كان قومه يقيمونه بمكة من قبله وكانت له وفادة على ملوك اليمن من حمير والحبشة وقد قدمنا خبره مع ابن ذي يزن ومع أبرهة ولما أراد حفر زمزم للرؤيا التي رآها اعترضته قريش دون ذلك ثم حالوا بينه وبين ما أراد منها فنذر لئن ولد له عشرة من الوالد ثم يبلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم قربانا لله عند الكعبة فلما كملوا عشرة ضرب عليهم القداح عند هبل الصنم العظيم الذي كان في جوف الكعبة على البئر التي كانوا ينحرون فيها هدايا الكعبة فخرجت القداح على ابنه عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم وتحير في شأنه ومنعه قومه من ذلك وأشار بعضهم وهو المغيرة بن عبد الله بن مخزوم بسؤال العرافة التي كانت لهم بالمدينة على ذلك فألفوها بخيبر وسألوها فقالت: قربوه وعشرا من الإبل وأجيلوا القداح فإن خرجت على الإبل فذلك وإلا فزيدوا في الإبل حتى تخرج عليها القداح وانحروها حينئذ فهي الفدية عنه وقد رضي إلهكم ففعلوا وبلغت الإبل مائة فنحرها عبد المطلب وكانت من كرامات الله به وعليه قوله صلى الله عليه وسلم «أنا ابن الذبيحين» يعني عبد الله أباه وإسمعيل بن إبراهيم جده اللذين قربا للذبح ثم فديا بذبح الأنعام.
ثم إن عبد المطلب زوج ابنه عبد الله بآمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة فدخل بها وحملت برسول صلى الله عليه وسلم وبعثه عبد المطلب يمتار لهم تمرا فمات هنالك فلما أبطأ عليهم خبره بعث في إثره وقال الطبري: عن الواقدي: الصحيح أنه أقبل من الشام في حي لقريش فنزل بالمدينة ومرض بها ومات أقام عبد المطلب في رياسة قريش بمكة والكون يصغي لملك العرب والعالم يتمخض بفصال النبوة إلى أن وضح نور الله من أفقهم وسرى خبر السماء إلى بيوتهم واختلفت الملائكة إلى أحيائهم وخرجت الخلافة في أنصبائهم وصارت العزة لمضر ولسائر العرب بهم وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وعاش عبد المطلب مائة وأربعين سنة وهو الذي احتفر زمزم.
قال السهيلي: ولما حفر عبد المطلب زمزم استخرج منه تمثالي غزالين من ذهب وأسيافا كذلك كان ساسان ملك الفرس أهداها إلى الكعبة وقيل سابور ودفنها الحرث بن مضاض في زمزم لما خرج بجرهم من مكة فاستخرجها عبد المطلب وضرب الغزالين حليه للكعبة فهو أول من ذهب حلية الكعبة بها وضرب من تلك الأسياف باب حديد وجعله للكعبة ويقال: إن أول من كسى الكعبة واتخذا لها غلقا تبع إلى أن جهله لها عبد المطلب هذا الباب ثم اتخذا عبد المطلب حوضا لزمزم يسقي منه وحسده قومه على ذلك وكانوا يخرجون بالليل فلما غمه ذلك رأى في النوم قائلا يقول: قل لا أحلها لمغتسل وهي لشارب حل وبل فإذا قلتها فقد كفيتهم فكان بعد إذا أرادها أحد بمكروه رمى بداء في جسده ولما علموا بذلك تناهوا عنه وقال السهيلي: أول من كسا البيت المسوح والخصف والأنطاع تبع الحميري ويروى أنه لما كساها انتقض البيت فزال ذلك عنه وفعل ذلك حين كساه الخصف فلما كساه الملاء والوصائل قبلة وسكن وممن ذكر هذا الخبر قاسم بن ثابت في كتاب الدلائل وقال ابن إسحق: أول من كسا البيت الديباج الحجاج وقال الزبير بن بكار بل عبد الله بن الزبير أول من كساها ذلك وذكر جماعة منهم الدارقطني: أن نتيلة بنت جناب أم العباس بن عبد المطلب كانت أضلت العباس صغيرا فنذرت إن وجدته أن تكسو الكعبة وكانت من بيت مملكة فوفت بنذرها.
هذه أخبار قريش وملكهم بمكة وكانت ثقيف جيرانهم بالطائف يساجلونهم في مذاهب العروبية وينازعونهم في الشرف وكانوا من أوفر قبائل هوزان لأن ثقيفا هو قسي بن منبه بن بكر بن هوازن وكانت الطائف قبلهم لعدوان الذين كان فيهم حكيم العرب عامر بن الظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن بكر بن عدوان وكثر عددهم حتى قاربوا سبعين ألفا ثم بغى بعضهم على بعض فهلكوا وقل عددهم وكان قسي بن منبه صهرا لعامر بن الظرب وكان بنوه بينهم فلما قل عدد عدوان تغلب عليهم ثقيف وأخرجهم من الطائف وملكوه إلى أن صبحهم الإسلام به على ما نذكره والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين والبقاء لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.